بسم الله الرحمن الرحيم
شهد الفكر المسيحي حرکات اصلاحية كثيرة وناقمة على الانحراف الكنسي منذ القرن الثاني عشر وقبله بقليل، ومن أشهر تلك الحركات: الكاثاريون، والولدانيون. واللولارديون، والبوهيون ([1]).
وقد اشتركت هذه الحركات في الثورة على الفساد الكنسي، وعلى الفجور والمظالم التي يقوم بها رجال الدين، وكان لبعضها أثر بليغ في الواقع، اضطر الكنيسة إلى استعمال القوة في مواجهتها.
ومن أشهر تلك الحركات وأكثرها تأثيرا وعما في الواقع: حركة الإصلاح البروتستانية، وقد ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي على يد مارتن لوثر (1946م). وتعد هذه الحركة امتدادا طبيعيا لحركات النقد الديني، التي ظهرت في أواخر العصور الوسطى، بعد أن أصرت الكنيسة على فسادها. وقامت باضطهاد ومحاربة کال الناقدين لأخطائها، ولم تغير من مسارها العدي والفكري؛ فقد تضافرت الأوضاع المعرفية، والسياسية والمجتمعية، في أواخر القرن الخامس عشر، وتهيأت تقيام ثورة إصلاحية كبيرة ضد الكنيسة، وفي بيان هذا التوجه يقول جورج لوريمر: ایتفق المؤرخون عموما، على أن أوروبا في سنة ۱۵۰۰م، كانت متأهبة للإصلاح»([2]).
وتعد حركة الإصلاح البروتستانتي من أكبر الحركات التي هزت الفكر المسيحي وغيرت من مساره، ووصفت بأنها «نقطة تحول في التاريخ، ليس بالنسبة لتاريخ الكنيسة فحسب، بل في حضارة الغرب أيضا([3])، وأضحى القرن السادس عشر يسمى بقرن الإصلاح الديني. وأصبحت الحادثة الأبرز والمعلم المميز لذلك القرن.
وأضحت حركة محورية في الفكر المسيحي؛ ولهذا اشتغل المؤرخون والفلاسفة بها، وتناولوها بالدراسة والتحليل من عدة جهات؛ فتناولوا أسبابها و آثارها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وتوسعوا في شرح تاريخها وتطوراتها، وملابساتها، ومسارها الفكري.
وقد اشتهرت ظاهرة الإصلاح في هذا العصر به «الإصلاح البروتستانتي»، وهي كلمة إنجليزية تعني: المحتجين. وهذه التسمية تطلق بشكل أكبر على أتباع مارتن لوثر: لأنهم كانوا السبب في إطلاقها. ولكنها ليست خاصة بهم. فقد أطلقها عدد من المؤرخين على كل الطوائف الناقدة للكنيسة في القرن السادس عشر ([4]).
وكذلك تسمى «بالإصلاح الإنجيلي»: لأن المصلحين في هذه المرحلة، اتفقوا على المطالبة بالرجوع إلى الإنجيل مباشرة، ومن غير واسطة الرهبان، وجعلوا ذلك مرتكزا أساسيا في إصلاحهم.
واشترك في حركة النقد في القرن السادس عشر أشخاص كثر. إلا أن أشهرهم وأكثرهم تأثيرا ونفوذا في الفكر المسيحي ثلاثة نفر، هم: مارتن لوثر، وزوینجلي، و كالفن.
ولكن أشهرهم وأشدهم تأثيرا، مارتن لوثر: فهو من أبرز الشخصيات الإصلاحية التي أثرت في مسيرة الفكر المسيحي، ومن أكثرهم إثارة للجدل والخصومة، وقد كتبت حول حياته وسيرته كتابات يصعب حصرها، وتوالت الثناءات عليه من جهات عديدة؛ يقول أندرو میلر: «كان لوثر هو الآلة المعدة تجمع حصاد حركة الإصلاح المجيد»([5])، ويكرر الثناء عليه فيقول: «كان هو صوت الله الذي أيقظ أوروبا، ووجه انتباهها إلى هذا العمل العظيم»([6])، ويقول جون لوريمر مثنيا عليه: «إنه الشخص الذي افتتح عصرا جديدا في تاريخ الكنيسة. بل الواقع في تاريخ أوروبا نفسها»([7])، ويقول ول ديورانت في مدح لوئر: «كان صوت عصره المدوي، كما كان قمة من قمم التاريخ الألماني»([8]).
وقد كان لوثر في أول حياته منتميا إلى الكنيسة، ووكل إليه تدريس الكتاب المقدس، واختير سنة 1910م عضوا في وفد مرسل إلى روما من قبل الكنيسة، وتشكلت عنده في هذه الأثناء، نظرات نقدية حول الكنيسة، ورجالها وأخلاقها.
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، والحادثة التي هي نقطة إعلان تحول لوثر إلى ناقد ومصلح، اعتراضه على القديس حنا تینزل حين قدم إلى ألمانيا ليبيع صكوك الغفران سنة 1715م، وجمع الأموال للكنيسة، فبادر لوثر وكتب عريضة مطولة، قدم فيها خمسا وتسعين اعتراضا على بيع صكوك الغفران، وعلقها على باب کنیسة في «ويتنبرج»([9])، تضمنت نقد سلطة البابا على الناس، وإنكار أن يكون للبابا أي سلطة في مغفرة الذنوب، وقد قام عدد من الباحثين بدراسة مضمون تلك العريضة، وتحليل مفرداتها([10]).
ولم يكن انتقاد لوثر للكنيسة مقتصرا على صكوك الغفران، بل كان أوسع من ذلك؛ فقد أنكر عصمة البابا، وعصمة المجامع الكنسية، وأنكر احتكار البابا التفسير الكتاب المقدس، وأنكر تحريم الزواج، بل وبادر هو إلى فعله، وكان صنیعه ذلك مثار جدل واسع في الأوساط المسيحية([11]).
وما إن صدر من لوئر ذلك النقد، حتی توالت عليه الانتقادات، وأصبح هدفا للهجوم من كل حدب وصوب، وجرت بينه وبين المناوئين له حوارات و نقاشات مطولة، وبدأ البابا يشعر بخطورة نقد لوثر حين علم أن مبيعات صكوك الغفران آخذة في التراجع بسبب كتابات لوئر([12])، وأصدرت الكنيسة قرارا بحرمانه ، وحکمت بهر طقته سنة ۱۵۲۱م)([13]).
وبعد ذلك. أعلن لوثر انشقاقه التام عن الكنيسة، وبادر إلى تأليغ ثلاثة کتب، سمیت : «كتابات المصلح الكبير»، وكان لها وقع كبير على الواقع المسيحي([14]).
وقام بترجمة الإنجيل إلى الألمانية، ولاقت ترجمته انتشارا واسعا وسريعا وقام بإنشاء الكنائس الخاصة بأتباعه، وأخذ في تأليف مجموعة من المؤلفات تشرح أصول الإيمان الذي يدعو إليه([15]).
ونتيجة لمجيء هذه الحركة بعد توغل الفساد الكنسي، وغرق الناس في المظالم والمفاسد والقهر = فرحت الشعوب المسيحية بها، وتلقوها بقلوب مفتوحة، وآمال مبسوطة، فلاقت تلك الدعوة انتشارا واسعا في كثير من البلدان الأوروبية؛ فقد «سرت بصفة عامة في جميع ممالك أوروبا؛ فالسويد، والدنمارك، وهولندا، وسويسرا، وبلجيكا، وإيطاليا. وأسبانيا، وفرنسا، والجزر البريطانية، كلها انجذبت مع تيار الثورة الدينية العظمى، التي سرعان ما تغيرت صفتها فلم تعد مسألة محلية، أو حتى قضية قومية، بل أصبحت موضوع ذلك العهد مسألته الكبرى .. وكان الناس يروحون ويجيئون، ولا حديث لهم سوى آخر الأخبار عن الأمور العجيبة التي تسير على قدم وساق في كل مكان»([16]) عن الإصلاح البروتستانتي.
وكان المؤمل أن تقوم تلك الحركة بالقضاء على كل مظاهر الفساد الديني والخلقي، وتعيد للدين ورجاله وتعاليمه صورته الحقيقية البراقة، وأحكامه العادلة، وشرائعه المتّسقة مع العقل والفطرة، وتخلص الشعوب مما كانت تعانيه من الاضطراب والقهر والذل، ولكن الأمر كان مخيب للآمال: فإن هذه الحركة لم تصلح كل المفاسد، وإنما أبقت على كثير منها، وسعت إلى تأكيدها وتعميقها، ولم تكتف بذلك، بل أحدثت مفاسد أخرى، وضمت إليها قبائح جديدة، كان لها أعظم الأثر في ازدياد نفرة الناس من الدين جملة، وفي تعميق تغليهم من تعاليمه، وسعيهم إلى تقويضه.
وفي الإشارة إلى شيء من تلك الآثار، يقول رونالد سترومبرج: «على الرغم مما أثارته ثورة لوثر في نفوسهم من مشاعر إيجابية، سرعان ما تبين لهم أنها ثورة عقيمة لم تسفر إلا عن دوغمائية جديدة. الأمر الذي أسفر عن خيبة أمل شديدة لدى العديد من المفكرين»([17]). وأخذوا يقولون: إذا كان هذا هو حال الحركة التي تدعي الإصلاح، وأنها تعيد شكل الدين الحقيقي؛ فهذا يعني أن الدين في جملته فاسد وباطل.
ويصور المؤرخ الأمريكي ول ديورانت خيبة الأمل التي أصابت الناس من الإصلاح الديني، فيقول – بعد ذكره لجملة من مفاسد تلك الحركة -: «وبدا أن الأمة آسفة على الإصلاح الديني، إنها تتطلع بشغف إلى ماضي كان في الإمكان وقتذاك أن تعد نموذجا، طالما أنه لن يعود. والحق أن الإصلاح الديني لم يظهر حتى الآن إلا جانبه المرير لإنجلترا، فلم يكن تحريرا من المذهبية ومحاكم التفتيش والطغيان، بل كان تثبيتا لها، ولم يكن انتشارا للاستنارة، بل كان سلبا للجامعات وإغلاقا لمئات المدارس، ولم يكن توسقا في الرّقة، بل كان تقريبا – قضاء على البر ، ورقعة بيضاء للجشع، ولم يكن تخفيفا للفقر، بل كان س ما للفقراء بلا رحمة»([18]).
ويقول کرانكفي وصف ما حدث بسبب حركة الإصلاح: «إن تعاليم لوثر قد أدت إلى الفوضى والخلق السيئ، ولم تتمكن من إصلاح المستوى الخنقي للكاثوليكية»([19]).
__________________
1 انظر في التعريف بهذه الطوائف: تاريخ الكنيسة، جون نوریمر (4/ 46. 43). مختصر تاريخ الكنيسة، أندرو میلر (۳۸۷ – ۳۹۶). و تاريخ أوروبا في العصور الوسلی. هربرت فیشر (۳۹۲)، وتاريخ الفلسفة المسبحية، برتراند رسل (۲/ ۲۵۰ – ۲۵۷). ونصة الحصوة، ول دیورانت ( ۷۹ / ۱۹ – ۸۵، ۷۹ / ۱۷ – ۸۷. 4 / ۲۳ . 11). والهرطفة في المسيحية. ج. ويندر (۱۷۰ . ۱۷۹)، وتاريخ الإنسانية، ويلز (۷۲۹)، وتاريخ الكنيسة في العصور الوسطى. جاد المنفلوطي (۱۳۹ – ۱۳۱).
2 تاريخ الكنيسة (4/ 34)، وانظر في إرهاصات حركة الإصلاح البروتستانتي: الفرق والمذاهب المسيحية منذ ظهور الإسلام إلى اليوم. سعد وسنم (۱۲۱-۱۲۳).
3 تاريخ الكنيسة، جون لوريمر (4/ 34)، وانظر : آلام العقل الغربي . ريتشارد نارناس (285).
4 انظر: مختصر تاريخ الكنيسة (463).
5 المرجع السابق (425).
6 المرع السابق (427).
7 تاريخ الكنيسة (4/ ۱۰۰).
8 قصة الحضارة (34/ ۱۳۰).
9 انظر: تاريخ الكنيسة. جون نوریمر (4/ ۱۱۳ – 114).
10 انقر : المصنع لوئر. حنا الخضري (55 -60).
11 انظر في انتقادات لوش: تاريخ الكنيسة، جون لوريمر (4/ ۱۲۱ – ۲۱۰).
12 انظر: المصلع لوئر، حنا الخضري (59).
13 انظر : تاريخ الكنيسة، جون لوريمر (117/4).
14 انظر في التعريف بمضمونها: المصلع لوئر، حنا الخضري (75 – ۷۹).
15 انظر في التعريف بها: المرجع السابق (106).
16 مختصر تاريخ الكنيسة، أندرو میلر (455).
17 تاريخ الفكر الأوروبي الحديث (35).
18 قصة الحضارة ( 25 /167).
19 بواسطة: عصر الإلحاد، محمد تقي الأميني (43).
المصدر: ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث: د.سلطان بن عبد الرحمن العميري، مركز تكوين، الطبعة الثانية: 1439 هـ 2018 م. الجزء الأول صـ 72-76.