القرآن الكريمنصائح ورقائق
التفسير النبوي لقوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
الحكمة الإلهية - رحمة للعالمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فقد كثرت الطعون الموجهة للقرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأغلب هذه الطعون تنم عن جهل قائلها وسوء نيته.
وقد كثر الكلام عن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة: 101]
فيقولون عبارة (أغلق عقلك واتبعني) يريدون: أن النبي صلى الله عليه وسلم اخترع هذه الآية لكي لا يكثروا الأسئلة عليه فيما يخص الدين، فيكون ذلك سببًا في تركهم الإسلام المنافي للعقل!!!
وأكثر من يقول ذلك يعتقد أن: 1+1+1=1! أقصد النصارى الذين يؤمنون بالتثليث: إله الآب وإله الإبن وإله الروح القدس = والثلاثة إله واحد فرد!
والذين يؤمنون بما جاء في سفر الأمثال:
5:3 تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ.
ولتفسير هذه الآية تقول: إنَّ أفضل من فسَّر كلام الله تعالى[1] هو النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّه رسول الله، ولأن الله أوكل إليه هذه المهمة، قال تعالى: أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]
يقول النبي صلى الله عليه وسلم[2]: إن أعظمَ المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيءٍ لم يحرَّمّْ على المسلمين، فحرّم عليهم، من أجلِ مسألتِه.
إذًا فالآية نزلت لسبب معين وهو بعيد كل البعد عن فهم أعداء الإسلام العظيم، فمقصود الآية عدَّة أمور:
1- النهي عن الأسئلة السفسطائية.
2- النهي عن أسئلة الاختبار التعسفي.
3- النهي عن السؤال عما لا ينفع العبد.
4- النهي عن السؤال في أمور لو وجبت على الأمة لشقت عليهم.
كما أن المعترض على الآية الكريمة يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد إجابتهم على أسئلتهم، والآية تقول “وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ“: أي لو سألوا عنها لبينها الله لهم.
وجماع الفهم الصحيح لهذه الآية يتلخص في قوله “إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ“، فنستنتج من هذا أن الله سبحانه وتعالى نهى عن مساءلة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة، لا لأنَّه سيكون عند المسلمين أسئلة تمس بصحة الإسلام كما يتوهم المعترض، انظر إلى قوله تعالى في نهاية الآية “عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ“، أي: عفى الله المؤمنين عن بعض المسائل والله غفور لمن تاب من عباده وامتثل الأمر، حليم على من تجاوز الأمر، سبحانه.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسيره لهذه الآية[3]: لا تسألوا عن أشياء لا حاجة لكم بالسؤال عنها ، ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم ، فقوله: “إن تبد لكم تسؤكم”في محل جرٍّ صفة لأشياء ، أي لا تسألوا عن أشياء متصفة بهذه الصفة ؛ من كونها إذا بدت لكم ؛ أي : ظهرت وكلفتم بها : ساءتكم ، نهاهم الله عن كثرة مساءلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة ، قد يكون سببا لإيجابه على السائل وعلى غيره ، قوله: “وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم” هذه الجملة من جملة صفة أشياء ، والمعنى: لا تسألوا عن أشياء ، إن تسألوا عنها حين ينزل القرآن ، وذلك مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ونزول الوحي عليه : تبد لكم ، أي : تظهر لكم ، بما يجيب عليكم به النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ينزل به الوحي ، فيكون ذلك سببا للتكاليف الشاقة ، وإيجاب ما لم يكن واجبا ، وتحريم ما لم يكن محرما ، بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال.
والدليل على أنَّه ليس المراد منها أن النبي صلى الله عليه وسلم شعر بالحرج من أسئلة الناس التعجيزية، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يسألوه ما يشاؤون.
فعن أنس رضي الله عنه[4]: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ ، فَقَامَ عَلَى المِنْبَرِ ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ ، فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ : ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ ، فَلاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا ) فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي البُكَاءِ ، وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ : ( سَلُونِي ) ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ ، قَالَ: ( أَبُوكَ حُذَافَةُ ) ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: ( سَلُونِي ) فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، فَقَالَ : رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَالَ: ( عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ ، فَلَمْ أَرَ كَالخَيْرِ وَالشَّرِّ ) . قال الإمام مسلم رحمه الله عقب إيراده هذا الحديث[] ” قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ : مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أَعَقَّ مِنْكَ؟ أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَتَفْضَحَهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ : وَاللهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ.
فمن مناسبات التي نزلت فيها هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوما فقال[5]: أيها الناسُ! قد فرض اللهُ عليكم الحجَّ فحجُّوا فقال رجلٌ: أكل عامٍ؟ يا رسولَ اللهِ! فسكت. حتى قالها ثلاثًا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لو قلتُ : نعم. لوجبت. ولما استطعتم. ثم قال ذروني ما تركتُكم. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرةِ سؤالِهِم واختلافِهِم على أنبيائِهم. فإذا أمرتُكم بشيٍء فأتوا منهُ ما استطعتم . وإذا نهيتُكم عن شيٍء فدعوهُ. إنَّ اللهَ أذِنَ لرسولِه ولم يأذن لكم. وإنما أَذِنَ لي فيها لم يفسق.
إذا فالنبي صلى الله عليه وسلم قادر -بإذن الله تعالى- على الإجابة على أسئلة الناس، ولكن الله أرحم من المؤمنين بأنفسهم، وقد وصف رسوله بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]
ثانيًا: لا علاقة لهذه الآية بالنهي عن السؤال في الشريعة بشكل عام، لا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه لحرصه على سماع الحديث والتفقه في الدين، فعندما سأله أبو هريرة رضي الله عنه، فقال[6]: من أسعَدُ الناسِ بشفاعتِك يومَ القيامةِ ؟ فقال : لقد ظنَنتُ، يا أبا هُرَيرَةَ، أن لا يسألَني عن هذا الحديثِ أحدٌ أولَ منك، لمِا رأيتُ من حِرصِك على الحديثِ، أسعدُ الناسِ بشفاعتي يومَ القيامةِ مَن قال : لا إلهَ إلا اللهُ، خالصًا من قِبَلِ نفسِه.
قلت: فإن كان السؤال في الأمور المهمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مباح، فمن باب أولى السؤال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحيي وزوال الخوف من جلب المشقة على أمة الإسلام.
فما بال أعداء الإسلام يستعملون هذه الآية في سياق أن المسلم لا يستطيع سؤال الشيخ أو العالم عن مسألة ما بحجة أغمض عينيك واتبعني!!!
إليك هذا النموذج من الأمة الغضيبة، فقد أمر موسى عليه الصلاة والسلام قومه بأن يذبحوا بقرة، فيأخذوا منها عضوًا يضربوا به الرجل المقتول فيقوم بإذن الله ليخبر بقاتله؛ ولكنهم شددوا بسؤال ما لا ينبغي السؤال عنه فكان الأمر بذبح أي بقرة يرونها ولكنهم سألوا عن عمرها وطبيعتها ولونها وأوصاف تميزها عن جميع البقر، فشددوا فشدد الله عليهم!
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) [البقرة]
وقد قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7]
والحمد لله رب العالمين
اضغط للاشتراك في تطبيقنا على الفيس بوك لتصلك أجدد مواضييعنا برسالة خاصة